أسرلة العملية التعليمية في القدس.. السياق والأهداف وسبل المواجهة
مقدمة:
تعرضت مدينة القدس منذ النكبة الفلسطينية عام 1948 لهجمة شرسة طالت كل مناحي الحياة، حيث أقدم الاحتلال "الإسرائيلي" على انتهاج العديد من السياسات التهويدية هدفت من خلالها إلى فرض واقع جديد على الأرض. من خلال سياسات هدم منازل الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم وطرد السكان العرب من منازلهم. كما وفرضت قبضتها على المؤسسات الرسمية في المدينة، وأصدرت العديد من القوانين التي كرست للاحتلال عملية تهويد تلك المؤسسات، وخاصة المؤسسات التعليمية، التي تعتبر مدخل الاحتلال للعقل الفلسطيني في المدينة المقدسة.[1]
ونظراً لأهمية قطاع التعليم ودوره الأساسي في تنشئة جيل واع لقضيته، كان التعليم في القدس المحتلة هدفاً رئيساً لسلطات الاحتلال لتدميره واضعافه، حيث أصبح يعاني قطاع التعليم في مدينة القدس من سياسات الاحتلال كغيره من القطاعات، فبات الآلاف من الطلاب دون مقاعد دراسية، والعديد من المدارس تفتقر لأدنى المقومات والأساسيات من معلمين وقرطاسية وخدمات، ناهيك عن تهويد المناهج الدراسية وتحريفها، اضافة لوضع معيقات أمام عملية بناء المدارس وترميمها.[2]
ويؤكد الأكاديمي المقدسي المتخصص في علم الحضارات الدكتور علي قليبو لـ"القسطل" أن أسرلة العملية التعليمية في مدينة القدس ليست بفكرة جديدة بل بدأت مع الاحتلال، فقد حاولت "إسرائيل" الهيمنة وتهويد وتطبيع وترويض الفكر الفلسطيني من أجل السيطرة على الانسان الفلسطيني وتحويله إلى حامل للفكر "الإسرائيلي" التطبيعي، وأن يؤمن بالتاريخ حسب الرؤيا "الإسرائيلية" حتى تتوافق مع النظرة الصهيونية.
وأوضح الأكاديمي قليبو أن مديرة مدرسة المأمونية السيدة علية نسيبة كانت من أوائل من رفض التطبيع مع الاحتلال "الإسرائيلي" ورفضت أسرلة المناهج التعليمية لأنه إذا تعلم المقدسي ضمن نظام البجروت "الإسرائيلي" يعني فقدان المقدسي شخصيته العربية وانتماءه العربي.
وتابع قليبو أن مساهمة السيد علية نسيبة هي من أرست قواعد الصمود ومقاومة تطبيع مع الاحتلال ومحاولتهم إلغاء المنهاج الاردني واستبداله بالمنهاج "الإسرائيلي" فأسست مدرسة النظامية وقامت بالتعاون مع حسني الأشهب بالمحافظة على شخصية القدس العربية عبر المحافظة على منهاج التوجيهي الأردني بالتعاون مع حسني الأشهب. مؤكداً أن نسيبة هي من وضعت النواة الأولى لمواجهة أسرلة التعليم في القدس.
ونتيجة لنكبة 1948، انقسمت مدينة القدس إلى شطرين، وقع الجزء الغربي منها تحت السيطرة "الإسرائيلية"، في حين دُمج الجزء الشرقي منها وباقي الضفة الغربية مع المملكة الأردنية الهاشمية، وبذلك أتبعا للنظام التعليمي الأردني. وفي عام 1950 أُنشئت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينين (الأونروا)، والتي وفرت في البداية تعليماً مدته 9 أعوام للأطفال المقدسيين، وفي 1994/8/28 أُنشئت وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية فتسلمت هذه الوزارة مسؤولية التعليم بجميع جوانبه في الضفة الغربية وقطاع غزة، باستثناء القدس، حيث استلمت فقط مدارس الأوقاف، أما اليوم فتتوزع الهيئات المشرفة على التعليم في القدس على أربع جهات رئيسة، هي: الأوقاف الإسلامية (وتتبع للسلطة الوطنية الفلسطينية)، ووزارة المعارف وبلدية القدس التابعتان للاحتلال، والقطاع الخاص، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).[3]
وبعد هزيمة العرب في حرب 1967 واحتلال "الإسرائيليين" شرقي القدس، ألغت سلطات الاحتلال العمل بقانون التعليم الأردني ووضعت التعليم الابتدائي تحت رقابة وزارة المعارف "الإسرائيلية"، والتعليم الثانوي تحت رقابة بلدية القدس "الإسرائيلية"، كما أغلقت مكتب التعليم في محافظة القدس، واعتقلت العديد من مسؤولي التربية والمعلمين بمن فيهم مدير التربية، أما المدارس الخاصة المحلية والأجنبية فسمح لها بإدارة شؤونها، وإن ظلت تخضع لضغوط مباشرة وغير مباشرة لمحاباة سياسات الاحتلال، وخاصة في المناهج.[4]
وقد شرعت سلطات الاحتلال "الإسرائيلية" مؤخراً بتنفيذ القرار القاضي بإلزام المدارس العربية في القدس المحتلة بتدريس المناهج والكتب الصادرة عن دائرة المعارف في بلدية الاحتلال بالمدينة حيث قامت بتوزيع تلك الكتب على العديد من المدارس الخاصة في المدينة وهددت المدارس التي لا تلتزم بهذا القرار بالإغلاق وفصل مدرسيها. وبموجب تنفيذ هذا القرار تضيف إسرائيل إلى ميراثها الممعن في خرق القوانين الدولية تعديا جديدا على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، فهي بذلك تكون قد اخترقت بندا كاملا من معاهدة جنيف الرابعة التي تنص على الوضع التعليمي في البلاد المحتلة حيث يقع على عاتق الدولة المحتلة توفير الأجواء التعليمية المناسبة للطلبة دون المساس في مجرى العملية التعليمية أو منع استمرارها.[5]
يذكر أن وزارة المعارف "الإسرائيلية" وبلدية القدس "الإسرائيلية" منعتا منذ بداية العام الدراسي 2009-2010 التعليم المجاني للطلبة العرب في مدينة القدس الأمر الذي سيحرم آلاف الطلبة المقدسيين من فرص التعليم والتحصيل العلمي بحكم الظروف المعيشية الصعبة التي يعيشونها بسبب ما تفرضه عليهم سلطات الاحتلال من ضرائب.[6]
واقع التعليم في مدينة القدس
يعاني الواقع التعليمي في مدينة القدس من حالة تشتت عام، حيث يطبق على الطلبة الفلسطينيين في مدينة القدس عدد من الأنظمة التعليمية ذات مرجعيات مختلفة، فقد سيطرت "إسرائيل" على المدارس الحكومية، باعتبار أن الحكومات- ومنها حكومة الاحتلال- ترث بعضها، في حين تركت المدارس الخاصة ومدارس وكالة الغوث على حالها، أما بقية المدارس ونعني بها مدارس الأوقاف الأردنية، فقد عاملتها "إسرائيل" بشكل مختلف، بسبب إدارة الحكومة الأردنية للأوقاف وما تبعها من مدارس، وقد ترسخ الحال بعد اتفاقية السلام بين المملكة الأردنية الهاشمية و "إسرائيل" التي تبعت اتفاقية أوسلو، حيث ساهم التفاهم الفلسطيني الأردني في إدارة تلك المدارس من خلال وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية.[7]
وخلال القرن العشرين عانى الشعب الفلسطيني من تبعات الاحتلال الأجنبي وسـيطرته على شتى القطاعات، واختلفت غايات وفلسفات التعليم من فترة لأخرى؛ فقد تعاقبت على مدينة القدس تباعاً خمس سلطات، العهد العثماني، والاحتلال البريطاني، والحكم الأردني، والاحـتلال "الإسرائيلي" حتى إنشاء السلطة الفلسطينية، وكان التعليم في القدس من أكثـر القطاعات تـأثراً بالتحولات السياسية المختلفة، وما رافقها من مناخات اجتماعية وثقافية واقتصادية.[8]
ويشكل التعليم في مدينة القدس أحد أهم وأخطر التحديات التي يواجهها المجتمـع المقدسي، والذي ينفرد بخصائصه وميزاته تبعاً لخصوصية الواقع فـي المدينـة، وتنبـع هـذه التحديات من أهمية التعليم، وعلاقته المباشرة في بناء الفكر والقيم والمفاهيم والمبادئ، وفي بناء هوية الأفراد والمجتمعات، حيث يكتسب موضوع التعليم أهميته الخاصة في مرحلة مهمة مـن تاريخ الشعب الفلسطيني وهو يجاهد لتحرير وطنه، وبناء مؤسساته، وبلورة مناهجه التعليمية.[9]
التأثير على هوية الطالب الفلسطيني
يهدف الاحتلال "الإسرائيلي" من أسرلة التعليم للطلبة الفلسطينيين في القدس إلى إفراغ النظام التعليمي الفلسطيني من إطاره الوطني، وطمس الهوية الفلسطينية ومقوماتها ودلائلها من المناهج الفلسطينية، وتؤدي إلى إفراغ فكر الجيل المقدسي الناشئ من ارتباطاته التاريخية الإسلامية والعربية، وهذا بحد ذاته معاناة وطنية ترتبط بالهوية الفلسطينية، وسياسة تجهيل متعمدة ضد ما هو فلسطيني تقوم به "إسرائيل". ومن الناحية التعليمية والفكرية، فإن أساس هذه السياسة هو فرض رؤية "إسرائيلية" على المناهج التعليمية الفلسطينية، وجعلها تدور في فلك التاريخ "الإسرائيلي" ومعتقداته، و "إسرائيل" بهذه السياسة. تعمل على عزل المقدسيين عن هويتهم الثقافية والوطنية، بانتهاجها العديد من الإجراءات التي تتنافى مع الهوية الفلسطينية، وأحياناً تنكر وجود الهوية الفلسطينية، كمحاولة فرض (وثيقة استقلال دولة إسرائيل) كمساق دراسي في مواد التاريخ والمدنيات.[10]
وهذا النهج المتعمد يتضمن إعادة طباعة الكتب الدراسية الفلسطينية، وحذف ما له علاقة بالانتماء العربي الفلسطيني، إذ يتم حذف دروس كاملة، وأبيات شعرية وطنية، وفقرات وكلمات، وحتى الأسئلة والآيات القرآنية والرموز الوطنية، التي تتناول القضية الفلسطينية بصورة عامة، والتي تتناول قضايا أساسية يعيشها الشعب الفلسطيني، مثل حق العودة والمستعمرات "الإسرائيلية" وهجرة اليهود لأرض لفلسطين، والحواجز العسكرية والانتفاضة والقرى المدمرة والمهجرة، وكلمة النضال، وتنمية روح المقاومة والجهاد، وتمجيد الشهداء، وقضية الأسرى، فقد قامت وزارة المعارف الفلسطينية بحذف أية فكرة تتعلق بالتمسك بأرض فلسطين، والحس الوطني والانتماء العربي والتراث الفلسطينية وتاريخه، حتى أنها طالت الأزياء الفلسطينية، وفرضت حذف حادثة إحراق المسجد الأقصى، وعدم الحديث عن القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي ودوره في تحرير بيت المقدس، وغيرها من القضايا الأخرى.[11]
وقد أمعنت "إسرائيل" بسياسة أسرلة التعليم إلى حد وصل إلى فرض عدم المشاركة في الفعاليات الوطنية الفلسطينية في مدارس مدينة القدس، ومنع الطلبة من إحيائها أو تفعيل نشاطات تتعلق بالمناسبات الوطنية الفلسطينية، وقد كان التركيز في هذه المسألة منصباً على مدارس البلدية والمعارف، حتى أنها تمنع أي نشاط ثقافي ورياضي وفني وفلكلوري أو حتى تطوعي، يدل على الهوية والقضايا الفلسطينية، وهذا بدافع إلغاء كل ما هو وطني من فكر الطلبة المقدسيين، بالمقابل فإن الأعياد الوطنية "الإسرائيلية" ومناسباتهم الدينية هي أمر مشروع ويجب تطبيقه في المدارس العربية.[12]
المشكلات التي يعاني منها الواقع التعليمي في مدينة القدس:
إن الوقاع التعليمي في مدينة القدس أخذ شكلاً معقداً من حيث التبعية وهو ما وضع العملية التعليمية برمتها أمام معضلات شتى وتأتي هذه المعضلات على النحو التالي:[13]
- محدودية البرامج اللاصفية:
- محدودية المساحات التفاعلية بين الطلبة المقدسيين:
- غياب معيار المفاضلة وفقاً للمهارات الفردية:
- ضعف البنى التحتية:
- عدم القدرة على رصد ظاهرة التسرب:
- محدودية فرص التعليم المهني وخاصة للفتيات
- اختلاف التعليمات والعطل المدرسية
. . .